المنصة الاقتصادية العربية

تتواصل التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي بوتيرة سريعة، ويسري الأمر نفسه على الأسئلة حول طريقة تأثير الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد، وأسعار الأصول، وأسعار الفائدة، التي تعد الموضوع الأهم في الفترة الحالية، فهل الأرجح أن يسبب الذكاء الاصطناعي ارتفاعها أم انخفاضها؟

ربما تظن أن الاقتصاديين لديهم فهم واضح وإجابة شافية عن هذا السؤال المباشر، لكن الاقتصاد الكلي والذكاء الاصطناعي مجالان معقدان.

تزايد الطلب على الإنفاق الرأسمالي

يشير الاعتقاد السائد إلى أن أسعار الفائدة غالباً ما تنخفض مع ارتفاع الثروة والإنتاجية. ومن السهل أن نرى مصدر هذا الرأي، حيث ما تزال أسعار الفائدة الحقيقية في تراجع منذ 4 عقود بوجه عام. أما من الناحية النظرية، يصبح الإقراض أكثر أماناً بمرور الوقت، بالأخص مع تزايد الثروة المتاحة للادخار.

 

إذاً، لماذا قد تتعطل تلك الآليات؟

يستند توقعي غير المنطقي إلى اعتبارين، الأول من ناحية عملية؛ فإذا كانت طفرة الذكاء الاصطناعي حقيقية أو ظهور الذكاء العام الاصطناعي (AGI) صحيحاً، سيرتفع الطلب على الإنفاق الرأسمالي بشدة.

والثاني من ناحية نظرية؛ حيث تعد إنتاجية رأس المال عاملاً أساسياً في تشكيل أسعار الفائدة الحقيقية، فإذا ارتفعت إنتاجية رأس المال بشكل ملموس بسبب الذكاء الاصطناعي، يجب أن ترتفع أسعار الفائدة الحقيقية كذلك.

تخيل الإنفاق الرأسمالي في عالم الذكاء الاصطناعي. الاندفاع لإنتاج مزيد من رقائق أشباه الموصلات عالية الجودة سيستمر.

وتلك الاستثمارات ليست سهلة، ولا منخفضة التكلفة. لكن الطلب على الاستثمار لن يتوقف عند هذا الحد، فكلما تزايد دمج ذلك الذكاء الاصطناعي في شؤون الحياة وخطط الأعمال، سيرتفع الطلب على الحوسبة، مما يستدعي إجراء توسع كبير في البنية التحتية للطاقة.

أكرر أن تكلفة تلك الاستثمارات ليست قليلة. على سبيل المثال، تواجه منطقة شمال فرجينيا في الفترة الحالية أزمة كبيرة من هذا القبيل، والمتسبب فيها ليس الذكاء الاصطناعي وحده، فالمنطقة تعد موطناً لمراكز بيانات ضخمة، وتحتاج حالياً إلى ما يعادل عدداً من محطات الطاقة النووية الكبيرة لتلبية احتياجات الطاقة المتوقعة.

 

زيادة الاستثمار

ربما يمثل ذلك بداية ارتفاع الإنفاق الرأسمالي، إذ يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تحقيق بعض التقدم في وتيرة الكشف العلمي، وهو اتجاه يمكن توقع استمراره.

فتخيل- على سبيل المثال- إذا خفّض الذكاء الاصطناعي تكلفة تحلية المياه في أغلب أنحاء العالم. فجأة سيرتفع الطلب على تطوير أنحاء أكثر في ولايات كاليفورنيا وأريزونا ونيفادا، وستبني الولايات المتحدة عدداً أكبر من العقارات وتستخدم في العملية قدراً أكبر من الطاقة، وقد تسير السعودية والإمارات وعديد من الدول الأخرى على النهج نفسه، ما سيرفع الطلب الإجمالي على الاستثمار بدرجة أكبر.

كذلك، يبدو أن الطلب على السفر إلى الفضاء وإطلاق الأقمار الاصطناعية يرتفع أيضاً، لأسباب كثيرة من بينها الذكاء الاصطناعي. كما أن الابتكار في البرمجيات يؤدي إلى تقدم كبيرٍ في جانب الأجهزة والمعدات.

الأمر الأقل مدعاة للتفاؤل، أن الحرب المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والهجمات بالطائرات المسيرة قد تتصاعد أهميتها، كما يتضح حالياً في أوكرانيا والشرق الأوسط. وعلى الرغم أن ذلك يمثل مشكلة، إلا أنه سيؤدي إلى زيادة الاستثمار.

 

إذا اجتمع عدد كافٍ من تلك التوجهات خلال فترة زمنية قصيرة بما يكفي، حينها يمكن توقع ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، حيث سيرتفع الطلب على الاقتراض والاستثمار، على الرغم من أن المدخرات لن تزيد بمعدل متناسب على الأرجح، في المدى القصير على الأقل. حيث ستستنفد شيخوخة المجتمعات الثروات التي راكمتها.

 

ضغوط على أسعار الفائدة الحقيقية

إذا أصبح الذكاء العام الاصطناعي واقعاً، سيشبه الأمر دخول مليارات العاملين المحتملين إلى الاقتصاد العالمي في الوقت نفسه تقريباً.

إنه سيناريو معقد، لكن احتمال أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع الاستثمار بنسبة 5% أو أكثر من الناتج المحلي الإجماليللولايات المتحدة يبدو منطقياً ومقبولاً.

كذلك سيكون هناك استثمارات كبيرة لمساعدة العمالة البشرية في التعامل مع التعديلات الناتجة عن ذلك، وإعادة توجيه جهودها.

 

من الناحية العملية، من المتوقع انتعاش قطاع النقل، فضلاً عن التوسع في نطاق البرامج الحكومية لإعانات العاملين.

وسيؤدي هذان العاملان مع قوى أخرى مشابهة، تزايداً في الضغوط الصعودية على أسعار الفائدة الحقيقية.

 

كما قلت، فإن الاقتصاد الكلي ليس سهلاً على الإطلاق، لذلك، يجب اعتبار كل ذلك تخمين أكثر من كونه توقعاً.

مع ذلك، سيكون الاستعداد لانعكاس اتجاه أسعار الفائدة الحقيقية المتواصل للانخفاض نحو الصعود- لعدة عقود على الأقل- منطقياً، إلى أن يحقق التطور المعتمد على الذكاء الاصطناعي مزيداً من الثروة تكفي لزيادة المدخرات، وبالتبعية تراجع أسعار الفائدة الحقيقية مرة أخرى.

 

في الوقت الحالي، استعد للتغيير. فانخفاض أسعار الفائدة ليس قانوناً راسخاً لا يتغير في التاريخ الاقتصادي.

وكما أثبتت الأزمة المالية في 2007 و2008 أن “الاعتدال الكبير” (Great Moderation) كان وهماً، ربما يتضح أن الاعتدال الكبير الحالي في أسعار الفائدة الحقيقية ظاهرة متناوبة.

شاركها.